ثورة الموتى قراءة نقدية تحليلية لقصة ( أنا ميت) للكاتب السيد الزرقاني
.
بقلم د/ أميمة منير جادو
يعد الكاتب الصحفي السيد الزرقاني واحدا من الكتاب المهمين للقصة القصيرة الذي أخلص لواقعيتها كما أخلص يوسف إدريس من قبل مؤسس القصة القصيرة الواقعية وعملاقها القدير.
ولعلنا عرفنا الزرقاني صحفيا لذا فقد جمع كاتبنا بين الحسنيين والوجيعتين بكل ما يقابلهما من تحديات وصراعات ومعارك لا يصمد فيها غير الشرفاء.
لقد جمع بين كتابة المقال الصحفي الجريء بقلمه النزيه المعروف عنه , والمثير للجدل , وبين الإبداع الأدبي القصصي ولعل الأخير استفاد كثيرا من الأول فانعكس عليه بوضوح.واستطعنا أن نستنتج ذلك من متابعاتنا لهعبر السنوات الأخيرة وهو يؤسس لمشرعه الصحفي والأدبي معا والتف حوله جماعة من الشرفاء ولا سيما أبناء محافظة المنوفية أمثال د بسيم عبد العظيم ود محمد شهاب الدين والشاعر الكبير عبد الرحمن البجاوي والشاعر القدير محمد عبد الحميد عوض وغيرهم .
وقد قرأنا له مؤخرا قصة في منتهى الجرأة في التناول تطرح عبر دلالات واضحة ثورات داخل ثورة واحدة هي ثورة الموتى , إنهم الأحياء الموتى في غيبة العدالة الاجتماعية. أو الموتى الأحياء في دولة الظلم.
وسوف نلقي الضوء على هذه القصة وفق رؤية تحليلية نقدية عبر منهجية النقد الثقافي .
* أسلوب الكاتب :
عبر أسلوبه البسيط السهل الممتنع العذب يهدينا الكاتب السيد الزرقاني قصة ( أنا ميت) ويتميز أسلوب الكاتب بالعربية الفصحى الإعلامية البسيطة دونما تقعر أو تكلف أو تعجيز . هي لغة سلسة تصل لغالبية القراء بلا التباس وتمتزج بصور خيالية موحية يمكن قراءتها سيميولوجيا .
نوعية القصة أو لونها:
تنتمي للواقعية السحرية أو القصص الاجتماعي الواقعي الممزوج بالدمع والدم عبر بعض دراما موجعة , تستدر عبراتنا , وتنكأ في جراح شعب بأكمله أو بالأحرى تستفز جراح وطن يضيع بين حكامه الغافلين او المتغافلين.
* عتبات النص :
ومنذ عتبات القصة الأولى أي العنوان ( أنا ميت) يدهشنا ويجذبنا للبحث عبر قراءة شيقة حول معنى ومغزى العنوان..
لنطرح نقديا عدة أسئلة عبر لهفة القراءة: ماذا تعني أنا ميت ؟
فهل الموتى يكتبون ؟
أم يتكهن البطل بموته عبر رسائل عبثية يطالعنا بها تدريجيا أثناء القراءة ؟!
فضمير "الأنا" يعكس حالة واقعية تقريرية للمتكلم عن نفسه وهو بطل القصة ..
إن استخدام الضمير (الأنوي) هنا منذ البداية -كمبتدأ للجملة- يأخذنا رغما للبحث خلف سؤال بدهي : أنت ماذا ؟! أو أنت من ؟ ثم تستكمل بالخبر (ميت) ؛ وهكذا اكتملت عناصر الجملة من كلمتين مكتملتين دالتين على معنى (الموت) ؛ مما يستدعي السؤال الأهم حول السببية ؛ فما سببية الموت ؟!
فكما تقول الحكمة( تعددت الأسباب والموت واحد) .
والموت هو الموت .. مهما تعددت الأسباب ..قد يكون الموت مرضا والموت جهلا والموت فقرا والموت فُجاءه ..حتى هذا النوع الأخير له أسبابه الكامنة أيضا.
هكذا ينجح الكاتب في جذب القارئ للسؤال منذ عتبة النص الأولى : لماذا أنت ميت أو لماذا هو ميت ؟؟!!وهل حقا سيموت ؟
وسواء أكان الضمير للمخاطب(أنا) أو الغائب(هو) عندما نتحدث نحن عنه , فهو ينعكس على بطل القصة الذي يقر بشكل قطعي بأنه ميت. ميت .. ولكن كيف ولماذا ؟
هنا يكون غياب الأسباب المؤقتة هو الدافع لمواصلة القراءة لحضورها , أو استحضارها عبر النص سواء بشكل مباشر صريح أو بشكل بيني عبر دلالات رمزية سيميولوجية يمكن تحليلها وفقا للمنهج الدلالي. .
* الدلالات الرمزية السيميولوجية :
ولقد بدأ الكاتب بهذه الدلالات الرمزية السيميولوجية فيما بعد العنوان .
حيث يستهل الكاتب قصته بعرض نموذج إنساني ينتمي لطبقة مكتفية -أو ميسورة لحد ما- من الشعب ماديا أو الطبقة الوسطى المنقرضة -إلى حد ما- رغم غيبتها إحصائيا في حدود التفسيرات الإيكولوجية والمورفولوجية للسكان وعلماء الاقتصاد الذين أفتوا بغياب الطبقة الوسطى من الشعب وقيل إنهم إما طبقة فقيرة تزداد فقرا حتى الموظفين منهم من ذوي الدخل المحدود وهم يشكلون الأغلبية الكادحة المطحونة .. وإما طبقة غنية أو ثرية جدا تزداد ثراء على حساب قوت ومقدرات غالبية الشعب .. وهم يشكلون الأقلية أو الندرة ..
وبالتالي تتأتى غيبة العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين هاتين الطبقتين..
ومع اتفاقنا نسبيا بهذه النظرية إلا أننا نستطيع تجاوزا وصف البعض بأنهم طبقة وسطى وهي المستورة أو الميسورة التي تعيش مكتفية بنفسها دون أن تمد يدها للحاجة ( الاكتفاء الذاتي ).
بمعنى أن لديها بعض ميسرات الحياة العادية مثل امتلاكها لسيارة أو بعض الأجهزة الكهربية؛ موبايلات حديثة ؛ أو وظيفة مرموقة لا تكسب من حرام ولا مكاسب غير مشروعة تتيح لها الثراء الفاحش.
هكذا منحنا كاتبنا البارع السيد الزرقاني بعض تلك الدلالات السيميولوجية للوقوف على سمات شخصية البطل فهو: يرتدي بذلة أنيقة..ونظارة غالية ,وهاتف(آي فون)-أي هاتف غالي الثمن-ولديه سيارة يذهب بها لعمله..هكذا يبدو أيضا أنه من أهل المكانة الاجتماعية وإن لم يُشِر صراحة إلى وظيفته وقد نجح في إخفاءها بعدم المباشرة ولكن بالتدليل عليها حيث تمنحنا القراءة الدلالية مع مطلع القصة انه على (موعد مع المحافظ ).
مما يفسر لنا مكانة البطل وظيفيا وأدبيا واجتماعيا.. ومما يعكس لنا أنه من المستورين أو ميسوري الدخل إلى حد ما. فليس كل موظف بالدولة يستطيع أن يقابل المحافظ إلا إذا كان ذو حيثية .. فهو إما شخصية مرموقة أو عضو مجلس شعب أو صحفي أو رأسمالي ..وهكذا ..
ونستقريء ذلك من القراءة العامة للسياقات المجتمعية والبيروقراطية المتحكمة التي تشير إلى صعوبة لقاء ذوي المناصب من رجالات الدولة كالمحافظ ,والوزير والسفير ووكيل الوزارة وهكذا .
لكن بطلنا على علاقة قوية بالمحافظ ( إنه سيعرض عليه مشروعه الاستثماري) كما ورد بالقصة..
أي انه من الطبقة الميسورة الأعلى من المستورة عبر الدلالات السيميولوجية للمفردات الواردة.
وهكذا يدخلنا الكاتب في أجواء النص الذي يظل غامضا مما توحي به دلالات الموقف قبل خروج البطل.. فطفلته تعانقه ترجوه ألا يتأخر ..وزوجته تنظر إليه طويلا كمن يتملى من حبيب قد يطول غيابه..وهو في أوج نشاطه وتألقه وطموحه ..كل هذا يمنحنا الكاتب الشعور به في رسم الصورة والحركة والأداء..ثم يباغتنا الكاتب بالمفاجأة أو عقدة القصة .
* العقدة والحبكة القصصية :
ونستشعرها حين ينزل البطل ليستقل سيارته فيجد مكتوبا على "استيكر" عبارة ( أنا ميت) ملصقة في كذا موضع بجوار الباب وبالخلف و...الخ
مما يدفعه للتشاؤم وهو شعور فطري موروث نعتاده تجاه الأحداث الغامضة أو المجهولة ..وبصرف النظر عن موقف الدين من الطيرة المنهي عنها بحديث الرسول الكريم (ص) ولا تطيروا ؛ فلم يزل الشعور بالتشاؤم ملتصقا وجدانيا بعقولنا ونفوسنا كأن نسمع نعيق بومة أو عواء كلب أو نحذر من بعض الأرقام كالرقم 13 كرقم شؤم ونتفاءل بالرقم 7 كرقم حظ...أو حين تنقبض صدورنا لسماع بعض عبارات غامضة أو صريحة نستشعر معها بعض ضيق أو حزن وانقباض لا شعوري..
وكلها مشاعر فطرية وجدانية نفسية ..وقد وفق الكاتب في طرح هذا الشعور وأشار في القصة صراحة إلى تشاؤمه وطرح الأسئلة التي بلا إجابة : هل هناك من يترصد به وسيقتله ؟ هل هناك من يحذره ؟! وهل وهل ليدخلنا معه في حيرة..
ثم يأخذنا عبر فانتازيا عبثية ممتزجة بالواقع التراجيدي ليفسر لنا شيئا فشيئا مدلول جملة ) أنا ميت ) فيحاول بداية تجاوز هذا الشعور بالتشاؤم متخذا إجراء احترازيا إراديا أي الأخذ بالأسباب العقلانية الواعية فيعتزم عدم ركوب سيارته بل يأخذ سيارة أجرة) .التاكسي)
وفي هذا المشوار القصير المكثف ما بين ذهابه للمحافظة للقاء المحافظ وحتى نهاية القصة المأساوية التراجيدية يمر بطلنا بعدد من المواقف التفسيرية لجملة
( أنا ميت) مستعرضا أوجاع شعب يموت فقرا وجوعا ومرضا وفسادا أخلاقيا وجهلا و...و.....
يستعرض الكاتب ببراعة بعضا من المواقف الدالة على (موت الشعب)
لنقرأ مجددا (أنا ميت) قراءة سيميولوجية تتجاوز الأنا الفردي للأنا الجمعي أي الدالة على ال (نحن).
فها هو كاتبنا يطل إطلالة بانورامية رائعة على بعض تفاصيل واقعية تعكس أسبابا للموت على لسان بطلنا عبر (أنا) الراوي السارد العليم.
فبطلنا يمر بنماذج بشرية ميتة وإن كانت حية تعيش بالتنفس فقط..ومازالت الروح فيها ولم يأذن لها الله بعد بالرحيل النهائي للعالم الآخر وحيث الراحة الأبدية ..
إن تلك النماذج البشرية تؤكد أنها ميتة رغم حياتها ..إنه شعور الآدمي باللا آدمية واللا إنسانية .
شعور مهلك (بالدونية) أي دون الحد الأدنى للشعور بالحياة.
فهذه الطالبة النحيفة الفقيرة ذات الزي البسيط الواقفة أمام المدرسة الثانوية ترفع نفس اللافتة( أنا ميت) فيندهش ويظنها هي من فعلت بسيارته؛ فيركض نحوها ليسألها فتجيبه مشيرة لسيارة سوداء فارهة تقف أمام مديرية الشباب والرياضة يقودها شخص ما يمنح الطلاب الأغنياء الممتحنين إجابة الأسئلة عبر تقنية "الواتس آب" فور تحويلهم له خمسمائة جنيها عبر الهاتف بنظام الدفع "الكاش" المعروف حديثا, ذلك الذي أتاحته التكنولوجيا .
أي بضغطتي زر تتشكل المصائر . واحدة ترسل والأخرى تستقبل .
والواقع انها ثلاث ضغطات واحدة تحول النقود للمرتشي عديم الضمير ؛ والأخرى تحول له أسئلة الامتحانات من داخل اللجنة أيضا والثالثة تحول الإجابات من الخارج للداخل..أي تسريبات الامتحانات الكترونيا.
إنها إشارة في منتهى الخطورة لفساد منظومة التعليم والنجاح بالغش الإلكتروني وعدم السيطرة على سلبيات التكنولوجيا مما يتسبب في اللا عدالة الاجتماعية أيضا حيث يستفيد أبناء الأثرياء القادرين على الدفع على حساب أبناء الفقراء الغير قادرين مقابل دفع المال كرشوة أو شراء الامتحان والذمم معا؛ وبدون بذل أي مجهود وعلى حساب الفقراء المجتهدين الطموحين ..إنه يشير لتكريس قيم مادية نفعية برجماتية مستحدثة ومتزايدة وكيف يؤثر المال في شتى مناحي الحياة حتى شراء الذمم والضمائر والأخلاق مع توظيف التكنولوجيا داخل السرد وكيف اقتحمت حياتنا وشكلت مصائرنا.
إن الفتاة الفقيرة رمز لكل طبقة الشباب الطموحة المجهضة الأحلام والمستقبل ..إنه الشباب الميت بموت مستقبلهم التعليمي.. وموت طموحهم.
وقد نجح الكاتب في الإشارة إلى ذلك حيث ذكر "مديرية الشباب والرياضة" ؛ والسيارة السوداء الفارهة والتي ترمز لكبار المسئولين المستبعدين عن المحاسبية والرقابة. وحيث هنا حاميها حراميها..
لقطة رائعة توضح سقوط القادة والقدوة وفشل وفساد النظام التعليمي جهرا ونهارا مما لم يعد بخاف على أحد...
إنه موت الشباب؛ وأحلامهم وطموحاتهم بل والمنظومة التعليمية بأكملها.
ويكون لسان حال الفتاة/ الرمز "هتروح فين يا صعلوك في بلاد الملوك " ؟!
ويتجاوز بنا الكاتب هذا المشهد الافتتاحي لمشهد آخر لا يقل عبثية عن سابقه.
فبجوار سور النادي الأهلي يلمح رجلا مسنا رفع على ظهره راية( أنا ميت ) كان منحنيا فوق القمامة يلتقط بعض بقايا طعام الأثرياء..لعله يسد جوعه وجوع أولاده.
ونجح الكاتب في الإشارة السيميولوجية أيضا لكلمة سور النادي ..سواء كانت بوعي أو بدون وعي وبعفوية .
حيث يشير دلاليا دون تصريح للميزانية الباهظة التي تصرف على الأندية الرياضية ولعب كرة القدم مقابل تجويع الشعب..
وقد دلت إحدى الاحصائيات مؤخرا أن المصروف على الأنشطة الرياضية يعادل أربع مرات المصروف على التعليم والصحة وبعض الخدمات المهمة للشعب مما يدل على سوء توزيع الثروة القومية للبلاد..وفشل السلطة في إدارة مواردها تحقيقا للعدالة الاجتماعية ..إنها عبثية الحياة وعبثية الإدارة وعبثية القيادات.
ويأخذنا الكاتب مع بطل قصته لمشهد عبثي واقعي آخر فها هو بطلنا يحاول تجاوز رموز الأزمات الطاحنة في التعليم والفقر إلى أزمة الصحة ومعاناة المرضى من كبار السن وأصحاب المعاشات ممن كانوا مربين للأجيال على مدي أكثر من ثلاثين عاما في الخدمة فها هو مشهد قصصي للمعلم العجوز الفقير الذي يتعكز على عكازه وهو على المعاش متجها لمستشفى التأمين الصحي ليصرف بعض العلاج وليتلقى أسوأ المعاملة من بعض الأطباء والإدارة وربما كان بعضهم من تلاميذه ..فلا احترام للعمر ولا للخدمات التي قدمها قبلا طيلة حياته..إنها انهيار قيم الشباب وتدني الخدمة الصحية لكبار السن والمرضى والعجزة وقد رفع هذا الرجل أيضا راية( أنا ميت) إن تدني المعاشات لا يكفي ليسد احتياجات القوت والعلاج والسكن والمواصلات وبقية التزامات الحياة ..
ومازال الكاتب البارع يرسم لنا عبر قصته مشاهد غاية في العبثية ورموزا تكرس للفساد والمتاجرة بأرواح الشعب البائس .
إن بطلنا يستقل سيارة أجرة فيشير السائق إلى إن(الشعب الميت) هناك عند المحافظة وقد تجمهروا . ويدور بينه وبين السائق حديثا لا يقل عن بث روح التشاؤم مجددا والتأكيد لمعنى الموت فيتحدث عن ارتفاع أسعار البنزين المستمر مما يؤدي لرفع الأجرة وغلاء المعيشة و ارتفاع تكاليف استخراج الرخصة وكيف يعول أسرة ولا يكفيهم ويشير لتحول البعض لاستخدام "التكاتك" لارتفاع سعر أجرة التاكسي وشيوع الفوضى و...و...
وكلها أمور تؤكد عبثية وفوضاوية المشهد الاجتماعي بأكمله لكافة فئات الشعب المطحون الذي يرزح تحت نير الغلاء الفاحش وارتفاع تكاليف المعيشة .
ثم هاهو بطل قصتنا يذهب للمحافظة فيجد تظاهرة من جموع بشرية كلها ترفع لافتات(أنا ميت) وحين يسألهم من أين لهم بهذه اللافتات فينظرون نحوه بريبة وشك اعتقادا منهم بأنه مخبر من أمن الدولة فهيئته الأنيقة لا تدل على أنه منهم .
في هذا المشهد يشير الكاتب إلى غياب الأمن والأمان بين طوائف الشعب ..وإلى التشكك في بعضهم البعض ولا سيما من كان أنيق المظهر . وهذه دلالة على أن المظهر العام للإنسان يساهم بشكل ما في تكوين النظرة نحوه سواء إيجابا أو سلبا.وهي نظرة ذات دلالة نفسية تعتمد على لغة الجسد ومنها النظرة الفاحصة والذكاء الاجتماعي في قراءة الآخر عبر نظرة محدقة وخبرات سابقة.
ويختم الكاتب قصته بمشهد تراجيدي مأساوي كوميدي معا ليؤكد منتهى العبثية .. وليؤكد فكرة التشاؤم الأولى التي طرحها في بداية القصة.
هكذا تتفق عتبة النص الأولى مع الأخيرة . وفي هذا إنجاح للقصة عبر الاتساق الداخلي للفكرة.
حيث يتسلل البطل بهدوء خارجا من بين جموع الشعب التي رفعت لافتة (أنا ميت) ويعود ليأتي بسيارته ويقف معهم على أطراف المظاهرة ويرفع لافتة كبيرة مكتوب عليها نفس الشعار (أنا ميت) فيتوجه نحوه أحد أفراد المظاهرة الفقير المنكوش الشعر ويسأله متعجبا : لماذا أنت هنا ؟ لست مننا ؟
فقد كان الوحيد الذي يركب سيارة ومظهره الأنيق لا يدل على ذلك .
فيجيبه بشكل عبثي ينطوي على كوميديا ساخرة عبر مقارنته لنفسه بالآخرين الأكثر ثراء منه فيرد عليهم بأنه أيضا "ميت" لأنه لا يملك غير سيارة واحدة والآخرون لديهم عشرات السيارات الأحدث ؛ ولديه شقة وشاليه وغيره يمتلك الفيلات والأبراج والشاليهات ؛ وأن دخله "يادوب" مائة ألف جنيها بالشهر وغيره يتقاضى الملايين ...
فلما يسمعه الشعب الميت الثائر يقول ذلك وهم لا يملكون قوت يومهم , يسكبون البنزين عليه وعلى سيارته ويشعلون فيها النيران .
وهكذا تنتهي القصة بالمشهد العبثي الكوميدي التراجيدي معا..فتتحقق نبوءة الموت المحقق التي عبرت عنها القصة في مفتتحها "أنا ميت" الملتصقة عبر الاستيكر على سيارته صباحا.
هكذا كرس كاتبنا ببراعة لفكرة العبثية التشاؤمية في البداية مع العبثية الثورية عبر عبثية فوضى السلطة ولا مسئولية الحكومات وتكريس غيبة العدالة وطحن المواطن بكل أطياف الشعب.
فالكل ميت حتى النظام السلطوي ميت رمزا داخل النص .. وتعتبر القصة من القصص التنبؤية التي تمهد لثورة (شعب ميت) وحكومة ماتت بالغياب عن تحقيق أقل حق من حقوق الشعب المطحون بين غيبة العدالة الاجتماعية وغيبة القيم ورفاهية السلطة.
القصة تدق أجراس الخطر وتنذر بثورة الموتى التي تجاوزت ثورة الجياع..
ومع خالص التقدير والاحترام
د اميمة منير جادو.
٩/٨/٢٠٢٢