د. كامليا عبد الفتاح تكتب:مقاربة نقدية حول المعالجة الدرامية ، وصورة " الدم " في قصيدة " لا تصالح " ، لأمل دنقل
بقلم/د. كامليا عبد الفتاح
في قصيدة " لا تُصالحْ " تحتلُ مفردةُ " الدّم" - وصورتًه - جنباتِ الصورة الشعرية ، وتنتقل عبرَ ترددها - سبع مراتٍ - انتقالات تُوسِعُ دائرة محيطها الدلالي ، فهي في الفقرة الأول دمُ الشقيق :
" هل يصيرُ دمي - بين عينيك - ماءً
أتنسى ردائي المُلطّخ َ ..
تلبسُ - فوق دمائي - ثيابا مُطرزة بالقصب ؟! "
وفي الفقرة الثانية يُطالعنا الدمُ - في تصاعدٍ دلالي - ليصبحَ المُراقُ منه دمَ الذات الجمعية ، لا دمَ الشقيقِ وحده :
" لا تصالح على الدم ..حتى بدم ! "
وفي الفقرة الرابعة - وانطلاقا من التوالي العضوي للصورة الشعرية - يستهجن الشاعر ألّا يرى - المتصالحُ - هذا الدمَ الجمعي - وهو دمُنا - في كل كفٍ من أكف العدو الصهيوني - وهو استهجانٌ يلفتُ إلى كثرة الدم المراق وغزارته ، بما جعله واضحا في كل كف :
" كيف تنظرُ في يدِ من صافحوك ..
فلا تُبصر الدمَ ..
في كل كفْ ؟
إلى أن يقول : " فالدم - الآن - صار وساما وشارة ."
وحين نتأمل نهاية الفقرة الخامسة من القصيدة نُطالعُ الاستنهاضَ الثوري - في طرح دنقل - ماثلا في تحريضه على الثأر حتى تروي دماءُ المعتدي القلبَ والأرضَ ورفاتِ الأجداد ، وهكذا يبرزُ لنا التطور الدرامي عبر هذه المفردة :
" لا تصالح
ولا تقتسم مع منْ قتلوك الطعامْ .
واروِ قلبَك بالدّم
واروِ التراب المُقدّسْ ..
واروِ أسلافك الراقدينَ ..
إلى أنْ تردَ عليك العظامْ ! "
** مفردة العين تتردد - أيضا - في توالٍ درامي ، مُحكم ، يبرزُ الصدق والبراعة الشعرية لدنقل . وقد وردت العينان ، في مطلع القصيدة ، في قوله :
" لا تصالحْ
.. ولو منحوكَ الذهبْ
أترى حين أفقأُ عينيكَ ،
ثم أُثبّتُ جوهرتين مكانَهما ..
هل تَرى ..؟
هي أشياءٌ لا تُشترى .."
تطالعنا هاتان العينان - مرة أخرى - في الفقرة الثانية - في جملة استنكارية ، هي قولُه :
" أقلبُ الغريب كقلبِ أخيك
أعيناهُ عينا أخيك ؟!"
إنّ التهديد الذي يحاصرُ العينين - في هذه الصورة الشعرية - وتأرجح قيمتهما ، يتمرأى في هذا السؤال المُتشكك ، الذي يتردد في أكثر من موضع في القصيدة : "كيف تنظرُ في يد من صافحوك / فلا تُبصر الدم " و " كيف تنظر في عيني امرأةٍ .."
وعلى هذا النحو تتضافر بقيةُ عناصر الصورة الشعرية ، في توافق دلالي ، واتّساق مع المسار الدرامي للقصيدة ، ومع إيقاعها الذي تدفق من كثير من أساليب الأداء اللغوي والعناصر الجمالية . فضلا عن تنوع الانفعالات ، والتباين في وسائل الخطاب .
** لقد أدار أمل دنقل حجته في رفض مصالحة العدو ، من خلال عدة مرتكزات عاطفية - وعقلية - فقد اعتمد - أولا - على استثارة مشاعر لُحْمة الدم ، وحُرمة العِرض ، وغريزة الأبوة ، و ساق خطاب رفضه - للمصالحة مع العدو - واستهجانه وغضبه على لسان الشقيق الذي صوّر الصُلح استباحة لدمائه وإراقة لذكريات الماضي - والكينونة - و إباحةً للعِرض وقتلا لأبناء المستقبل . وقد توالت هذه الفجائع في خطاب الرفض والاستهجان على نحو متدفق في وتيرته الدرامية ، وفي انتقالات محسوبة ، تتصاعدُ بالمتلقي في سلّم التأزم ، كما يلاحظ المتلقّي في قوله :
لا تُصالح ْ / ولومنحوك الذهب ...
ذكرياتُ الطفولة بين أخيك وبينك ...
/ تلك الطمأنينة الأبديةُ بينكما : أنّ سيفانِ سيفَك .. صوتانِ صوتك
أنك إنْ متّ : للبيت ربُ / وللطفل أبٌ .
وهنا ، وبعد انبعاث الذكريات الثمينة ، وبعد التذكير بقيمة لُحمة الدم ، يصور هذا الدم مُباحا مُضاعا :
هل يصيرُ دمي - بين عينيكَ - ماءً ؟
أتنسى ردائي المُلطّخ ..
تلبسُ - فوق دمائي - ثيابا مطرزة بالقصب ؟
ويتكئ على هذه النبرة في الفقرة الثانية من القصيدة :
أكلُّ الرؤوس سواءٌ
أقلبُ الغريب كقلبِ أخيكَ
أعيناه عينا أخيك
وهل تتساوى يدٌ .. سيفُها كان لك
بيدٍ سيفُها أثكلك ؟
* في الفقرة الثالثة يواصل دنقل خطابه الغاضب باستدعاء زرقاء اليمامة ، رمزا للثكالى من النساء العربيات ، مثيرًا - باستحضارها - مشاعر النخوة والغيرة :
" وتذكّر ..
( إذا لان قلبُك للنسوة اللابسات السواد ْ ولأطفالهن الذين تُخاصمهم الابتسامة )
أنّ بنتَ أخيك " اليمامة "
زهرةٌ تتسربلُ - في سنوات الصبا - بثياب الحدادْ "
ويفيد من رمزية اسم اليمامة في كل اتجاه دلالي يخدمُ مساره ، فيقول :
" فما ذنبُ تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقا .. فجأةً ،
وهي تجلسُ فوق الرماد ؟! "
ويعود للحمة الدم مرة أخرى :
" لا تصالح
ولو توجوك بتاج الإمارة .
كيف تخطو على جثةِ ابن أبيكَ ..؟
كيف تصيرُ المليكَ ..
على أوجه البهجةِ المُستعارة ؟
ثم يرتكز دنقل على توظيف غريزة الخوف على الحياة ، فيخاطبها باعثا فيها الحذر من المصالحة :
" إنّ سهما أتاني من الخلف
سوف يأتيك من ألفِ خلفْ
فالدمُ - الآن - صار وسامًا وشارة .
لا تُصالح "
ويتحولُ إلى منحىً وجداني آخر ، يوظفه في هذا الخطاب ، إذ يستثير الرجولة والأبوة ، معا ، وينبش في كوامنهما الشعورية :
" كيف تنظرُ في عينيْ امرأةٍ ..
أنت تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتها ؟
كيف تُصبح فارسَها في الغرام ؟
- كيف ترجو غدا .. لوليدٍ ينام
- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبرُ - بين يديك - بقلبٍ مُنكّس ؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوكَ الطعام ."
* ثم يبني دنقل خطاب رفضه على تفنيد مزاعم الطرف الآخر - وهذه ركيزة منطقية ، مُدرجا هذه المزاعم تحت جملة : " ولو قِيل " ، و " سيقولون " على نحو :
" ولو قيل ما قيل من كلمات السلام ، ولو ناشدتك القبيلة ، سيقولون : ها أنت تنشد ثأرا يطول ، ولو قيل إن التصالح حيلة "
* ويتوالى الإصرار على رفض المصافحة / المصالحة إلى حد المطالبة بتكذيب نبوءة النجوم وتحذيرها - وكأنه يفيد من سخرية أبي تمام من نبوءة النجوم في قصيدته في فتح عمورية - وحد التصدي لسيوف كل القبائل كل الشيوخ :
" لا تصالح ، ولوحذَّرتك النجوم
ورمى لك كُهّانُها بالنبأْ "
" لا تُصالح ،
ولو وقفتْ ضدَ سيفك كلُّ الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ "
* وهنا ، وفي ذورة دراميةمؤثّرة ، يطرح دنقل المصالحةَ محالا ، لأنها لن تحدث إلا إذا حانت اللحظةُ الكونية التي تعودُ فيها الأشياءُ لأصولها و رحمها الذي تخلقتْ منه :
" لا تصالحْ
إلى أن يعود الوجودُ لدورته الدائرة :
النجومُ .. لميقاتها
والطيورُ ..لأصواتِها
والرمالُ .. لذراتِها
والقتيلُ لطفلته الناظرةْ .
كلُّ شيئٍ تحطّمَ في لحظةٍ عابرةْ :
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرّفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطرُ الموسمي - مراوغةُ القلب حين يرى طائرَ الموتِ
وهو يرفرفُ فوق المبارزة الكاسرةْ
كلُّ شيءٍ تحطّم في نزوةٍ فاجرة. "
وفي ما يشبه الدورة الدرامية ، تنطلق القصيدة مرة أخرى - من استدعاء
هذه الذكريات - تنطلق مرة أخرى - إلى لحظة اغتيال الشقيق ، وكأن القصيدة تسير في دورة زمنية ، قد التقى طرفاها :
كل شيئ تحطم في نزوة فاجرة
والذي اغتالني : ليس ربًّا
ليقتلني بمشيئته "
وتأتي خاتمة الخطاب - في القصيدة - وكأنها نتيجة تراكمية لهذا المد الدرامي ، الذي ارتكز على التفنيد وإبطال خطاب الآخر ، تأتي الخاتمة لتبرز المُخاطَب فارسا وحيدا في زمن ترهّلت فيه الفروسية و انزوت :
لا تصالح ،
فليس سوى أن ترد ْ
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ
وسواك .. المسوخ !
وينفرد الرفضُ بالفقرة العاشرة - والأخيرة - في القصيدة - موظفا أسلوب التكرار ، بما انطوى عليه من دلالات مختزنة - مُشبَعة - عبر الأجزاء التي سبقت من القصيدة ، حاسمًا ، قاطعًا ، نافيا كل تردد أو مراجعة أو تراجع :
(10 )
لا تصالح
لا تصالح !
********
* من كتابي " خصائص التشكيل الشعري " ، دار الوفاء للطباعة والنشر ، الإسكندرية ، عام 2017م
# الصورة في دار الوفاء ، في معرض القاهرة الدولي للكتاب ، عام 2017م