ريم ماهر تكتب: آهٍ على قِلّة حِيلةِ المرءِ
بقلم /ريم ماهر اسحق
ما أشدَّ قسوةَ العجز حين يتجسّدُ فينا، لا كحالةٍ طارئةٍ، بل كأسلوبِ حياة. حين تضيقُ بنا الدنيا لا لأننا لا نملكُ شيئًا، بل لأن ما كُنّا نملكه، ما كُنّا نظنّهُ لنا، انسلّ من بين أيدينا دون سابق إنذار. يبكي المرء، لا فقط على ما ضاع، بل على ما لم يكن له أصلًا، على الوهمِ الذي صدّقهُ طويلاً، على الأمنياتِ التي خبّأها ككنوز في صدره، معتقدًا أنّها يومًا ما ستُثمر، لكنها ذبلت قبل أن ترى النور.
يبكِي علىَ كُلِّ الأشياءِ التي انتزعتها منه الدنيا، كما تنتزعُ الريحُ أوراقَ الشجرِ اليابسة، دون أن تُبالي. يبكِي على أحلامٍ كانت له وطنًا في ليالي الشتاءِ الطويلة، على أصدقاءٍ شاركوه الطريق ثم غيّرتهم الطرق، على أحبةٍ غادروه إمّا بالموت أو بقرارٍ أبردَ من الشتاء. يبكِي على قلبهِ، ذاك الذي ضجّ بالحياةِ ذات يوم، وها هو اليومَ لا يُجيدُ سوى الصمتِ والانكسار. يبكِي على نفسه، التي ضاعتْ منه في زحامِ الدنيا، والتي لا يعرفُ كيف يستردُّها.
البكاءُ هنا ليس ضعفًا، بل هو الفعلُ الأخيرُ لمن استُنزفت قواهُ كلّها. هو اللغةُ الأخيرةُ التي يلجأُ إليها الإنسانُ حين تُغلقُ الحياةُ عليه أبوابها. الغريبُ في الأمر، أنّه لا يبكِي فقط على ما جرى، بل يبكِي لأنّه لم يعد قادرًا على الفعل، على التغيير، على الاحتجاج، على المقاومة. وهذا بالأكثر ما يُبكيه: أن يرى نفسه عاجزًا، صامتًا، مُنطفئًا.
نحنُ لا نُربّى على الخسارة، ولا أحد يُعلّمنا كيف نحملُ الحُزنَ بأناقة، أو كيف نعيشُ بقلوبٍ مثقوبةٍ دون أن ننهار. نكبرُ في وهمِ السيطرة، نظنُّ أننا نمتلكُ زمامَ أمورنا، نخطط، نحلم، نبني، نرسمُ معالمَ الغد، ثمّ تأتي الحياة لتُعلّمنا أنّها لا تلتزمُ بخرائطنا. تسرقُ منّا من نُحب، تُبدّدُ آمالنا، تُغيّر ملامحنا، وتهزُّ فينا الثقة بكلّ شيء.
لكن، هل البكاءُ نهايةُ الحكاية؟
ربما لا.
ربما يكون البكاءُ هو أوّل الخيط الذي يُعيدُ إلينا وعينا. لحظة الصدقِ التي نواجهُ فيها أنفسنا، دون أقنعة. هو إعلانُ الضعفِ، نعم، لكنّه أيضًا إعلانُ التوقِ إلى القوة. البكاءُ الحقيقيّ لا يُطفئنا، بل يُطهّرُنا من الداخل. يُسقِطُ عنّا وهمَ السيطرة، ويُعرّفنا بحقيقتنا ككائناتٍ هشّة، مكسورة، تحاولُ رغم ذلك أن تقف.
فيا لقلّة حيلة المرء حين يجد نفسه وحيدًا أمام جبروت الحياة، بلا سندٍ، بلا مَفر. ويا لعظمةِ الإنسان، رغم كلّ ذلك، حين ينهضُ مجددًا، حتى إن ارتجفت يداه، حتى إن كانت خطاهُ مثقَلة بالحزن.
إن الحزنَ لا يُقصينا عن الحياة، بل يُعيدُنا إليها من منظورٍ أعمق. يُعلّمنا أن نحبّ من جديد، أن نُقدّر اللحظات البسيطة، أن نُمسك بأيِّ ضوءٍ صغير، حتى لا نغرق. ولعلّ في تلك الدموع، التي تبدو استسلامًا، بذورًا لولادةٍ أخرى، أكثر حكمة، وأقلَّ وَهْمًا.