ريم ماهر تكتب.... التجاهل بقناعة زهد الحكماء وصمت العارفين.
في زحام الحياة، يتسابق الناس في صخبها، يتجادلون، يتصارعون، يتفننون في استفزاز بعضهم، وكأن الوجود ساحة معركة لا تهدأ. غير أن الحكيم لا يخوض كل معركة تُعرض عليه، ولا يستنزف روحه في جدل لا طائل منه، بل يمضي هادئًا، كمن يعرف دربه جيدًا، لا يلتفت لما لا يرقى لمستوى اهتمامه، ولا يسمح لصغائر الأمور أن تسرق منه سكينته. إن التجاهل ليس مجرد سلوك يتخذه الإنسان كرد فعل لحظة الغضب أو الضيق، بل هو فلسفة عميقة تقوم على وعي راسخ بأن السلام الداخلي أغلى من أن يُفرّط فيه لمجرد نزاع لا طائل منه.
حين يكون الصمت جوابًا والغياب حضورًا
ليس كل صمت عجزًا، ولا كل تجاهل هروبًا. بل قد يكون الصمت أبلغ من الكلام، والتجاهل حضورًا أقوى من كل ضجيج. أن تتجاهل عن قناعة، يعني أن ترى، وتدرك، ثم تختار ألا تبالي، لا لأنك لا تستطيع الرد، بل لأن الرد ذاته لا يليق بمقامك. الحكيم هو الذي يعرف متى يتحدث ومتى يصمت، متى يخوض المعركة ومتى ينأى بنفسه عنها. فالكثير من الحروب التي يخوضها الناس ليست إلا انعكاسًا لصراعاتهم الداخلية، ولا تستحق أن تُهدر فيها الطاقة والوقت.
إن التجاهل عن قناعة ليس مجرد تصرف لحظي، بل هو قرار نابع من إدراك عميق بأن بعض الأمور، مهما بدت مستفزة، لا تستحق الرد، لأن الرد عليها لا يزيد الإنسان إلا استنزافًا. فكما يقول المثل: "كلما كثر اللغط، كان الصمت سيد الكلام".
متى يصبح التجاهل رفعةً؟
حين يمتلئ الحديث بفراغ لا يُملأ، وتدور الكلمات في حلقة مفرغة، لا تزيدك إلا إنهاكًا. فهناك أحاديث لا هدف منها سوى الاستفزاز، وحوارات لا تحمل في طياتها إلا الجدل العقيم، وحينها يكون التجاهل هو الموقف الأكثر نضجًا.
عندما يتحول وجود شخص ما إلى ثقل على قلبك، يمتص نورك، ويبعثر سلامك، فتعرف أن الرحيل أولى من البقاء. فهناك أشخاص يعيشون على امتصاص طاقة الآخرين، ولا يطيب لهم العيش إلا بإشعال الفوضى في نفوس من حولهم، وهؤلاء لا يُواجهون، بل يُتجاهلون.
حين يكون الصمت هو الرد الذي يليق بك، لأنك تدرك أن بعض الردود تقلل من شأنك أكثر مما تعلو بك. فليس كل استفزاز يستحق إجابة، وليس كل هجوم يتطلب دفاعًا. أحيانًا، يكون التجاهل هو الرد الأقوى، لأنه يُحرم الطرف الآخر من متعة استفزازك.
كيف يكون التجاهل فنًا نبيلًا؟
1. أن تمضي في حياتك كما لو أن شيئًا لم يكن، وكأنك لم تسمع، لم ترَ، لم يلامس قلبك ما يستحق أن يتوقف عنده. ليس تجاهلًا بمعنى الإنكار، بل تجاهلًا بمعنى عدم الاكتراث لما لا يُضيف لحياتك شيئًا.
2. أن تنشغل بذاتك حدَّ الامتلاء، فلا تجد متسعًا لما يهدر وقتك، ويشتت روحك. فالانشغال بالنفس وتطوير الذات هو أفضل طريقة للتجاهل الحقيقي، لأنك حين تكون منشغلًا ببناء حياتك، لن يكون لديك وقت للتوقف عند تفاهات الآخرين.
3. أن تدرك أن التجاهل ليس انسحابًا، بل انتقاء، وأن السلام الحقيقي يكمن في القدرة على ألا تبالي لما لا يضيف إلى قلبك نورًا. التجاهل عن قناعة لا يعني الخوف من المواجهة، بل يعني أنك تختار معاركك بحكمة، وتترك ما لا يستحق الالتفات إليه.
4. أن تدرك أن الصمت أحيانًا أقوى من كل الكلمات. فهناك لحظات يكون فيها التجاهل أبلغ رسالة، حينها يكون الصمت صرخة، والتجاهل صفعة، واللامبالاة عقوبة أشد من أي رد آخر.
التجاهل بين القوة والضعف
كثيرون يظنون أن التجاهل ضعف، وأن من يتجاهل يفعل ذلك لأنه غير قادر على الرد، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا. فالتجاهل يحتاج إلى قوة داخلية، يحتاج إلى ثقة بالنفس، وإلى إدراك حقيقي لقيمة الإنسان الذي يتجاهل. فالذين ينشغلون بالردود والانفعالات يعيشون حياة يملؤها التوتر، بينما الذين يجيدون فن التجاهل يعيشون في راحة نفسية لا يملكها إلا العارفون بقيمة الصمت.
التجاهل لا يعني دائمًا قطع العلاقة أو الابتعاد الجسدي، بل هو في كثير من الأحيان حالة ذهنية. يمكنك أن تكون في نفس المكان مع شخص ما، لكنك قررت داخليًا ألا يكون له أي تأثير عليك. يمكنك أن تستمع إلى حديث مليء بالسلبية والاستفزاز، لكنك قررت ألا تأخذه على محمل الجد، بل تدعه يمر وكأنه لم يكن.
التجاهل الذكي والتجاهل الأحمق
هناك فرق بين التجاهل الذكي والتجاهل الأحمق. التجاهل الذكي هو الذي يأتي من قناعة بأنه لا جدوى من الدخول في معارك غير ضرورية، أما التجاهل الأحمق فهو الذي يأتي من ضعف، حيث يتجاهل الشخص أمورًا تستحق المواجهة، ليس لأنه اختار ذلك، بل لأنه لا يستطيع فعل غير ذلك.
التجاهل الذكي هو أن تعرف متى تصمت ومتى تتكلم، متى تواجه ومتى تبتعد، متى تتجاهل ومتى تضع حدًا للأمور. أما التجاهل الأحمق، فهو الهروب من المواجهة خوفًا، والتظاهر بعدم الاهتمام بينما القلب ممتلئ بالغضب والانفعال.
وختامًا.....التجاهل ليس ضعفًا، بل زهد في اللغو، وترفُّع عن كل ما لا يضيف إلى القلب وزنًا من النور. إنه أن تترك الأمور تمضي، كأنها لم تكن، وتمضي أنت أيضًا، كأنك لم ترَ، لم تسمع، لم تعرف. أن تصل إلى قناعة بأن الحياة أثمن من أن تُستهلك في معارك لا تُفضي إلى شيء، وأن السلام الداخلي أغلى من أن يُرهن بردود أفعال الآخرين.
فإن سألوك عن سرّ هدوئك، فقل: "عاهدتُ نفسي ألا أتنازل عن سكينتي لأجل ما لا يستحق."