ريم ماهر تكتب....الحجاج بن يوسف الثقفي السيف المسلول في زمن الفتن.
في صفحات التاريخ، هناك رجال كُتبت أسماؤهم بمدادٍ من دمٍ ونار. منهم من عُدّ طاغيةً جبارًا، ومنهم من رآه الناس سيفًا مسلولًا للعدل وسط فوضى عارمة. الحجاج بن يوسف الثقفي واحد من هؤلاء، شخصية استثنائية أثارت الجدل بين المؤرخين، حتى قال فيه الذهبي:
"كان ظلومًا، جبارًا، ناصبًا للعراق العداوة، سفاكًا للدماء، لكن صادقًا في الحديث، حافظًا للقرآن، فصيحًا، قوي النفوذ."
فهل كان الحجاج جلّادًا سفّاكًا أم رجلَ دولةٍ اضطُر إلى البطش ليبقى الملك قائمًا؟
-لم يكن الحجاج رجلًا عاديًّا، بل كان مزيجًا عجيبًا من القسوة والذكاء، الفصاحة والبطش، الرهبة والدهاء. فارسًا لا يهاب الوغى، وسياسيًّا لا يتردد في سحق خصومه، وحاكمًا يرى في الحديد والنار لغة السلطة الحقيقية.
تميز بفصاحته القوية، حتى إن ابن كثير ذكر عنه أنه "كان يخطب فيخافه الناس أكثر مما يخافون السيف." وبجانب فصاحته، كان سريع البديهة، لا يتراجع عن قراراته، مما جعله مرعبًا حتى في غيابه.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل كانت قسوته متجذرة فيه، أم أنها كانت سلاحًا اضطر لاستخدامه للحفاظ على الدولة من السقوط؟
-وُلد الحجاج في الطائف عام 40هـ، في بيئة يغلب عليها الحزم والصرامة، حيث الفصاحة تجري في الألسن، والشجاعة تُورَث مع العظام. بدأ حياته معلمًا للقرآن، لكن سرعان ما تحوّل إلى فارس مغوار، حتى شدّ الخليفة عبد الملك بن مروان به أزْرَه، إذ كان العراق بؤرة ثورات لا تهدأ.
حين تولّى الحجاج العراق، وجده مستعرًا بالفوضى، فواجهه بقلبٍ لا يعرف اللين، ولسانٍ يقطر وعيدًا، وأمرٍ كأنّه السيف النازل. لم يهادن، ولم يعرف التردد، فكان بطشه وسيلته لإرساء النظام حيث عجز غيره.
شخصية الحجاج(بين القوة والاضطراب)
لم يكن الحجاج مجرد قائد سياسي، بل كان نموذجًا مركبًا من استبداد إداري وذهنية تنظيمية فذّة. ربما كان يعاني من هوس السيطرة، فلم يكن يتحمل أن يرى العراق خارج طوع الدولة الأموية، وكان يتعامل مع أي تمرد وكأنه طعنة شخصية في كبريائه.
لكن في الوقت ذاته، هل كان يشعر بعبء قراراته؟ هل راودته لحظات شك؟ نُقل عنه أنه كان يقول في أواخر أيامه:
"اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل."
عبارة تحمل في طياتها صراعًا داخليًا قد يكون عاشه الحجاج بين قسوته وضميره.
ورغم بطشه، امتلك عقلًا إداريًا بارعًا، فأعاد هيكلة النظام الإداري والعسكري، وجعل من ولايته مركز قوة لا يتزعزع. كما أن فصاحته، التي اكتسبها من تعليمه الأول للقرآن، منحته قدرة خطابية جعلت كلماته تهزّ الناس قبل سيفه.
(القبضة الحديدية) ضرورة أم استبداد؟
برز الحجاج كشخصية لا تعرف التردد، فجاء بأسلوب لا يقبل المساومة، وفرض النظام حيث فشل غيره. لم يكن رجل تفاوض أو مساومات، بل كان قائدًا لا يتسامح مع التمرد. سحق الثورات، وأعاد للدولة هيبتها، لكنه استخدم العنف المفرط في ذلك.
وكان من أبرز ضحاياه الفقيه سعيد بن جبير، الذي ساقته الأقدار إلى مواجهة مصيرية مع الحجاج. حين وقف بين يديه، دار بينهما حوار حاد انتهى بقول سعيد:
"اللهم لا تسلطه على أحد بعدي!"
وقيل إن الحجاج لم يعش طويلًا بعدها، حيث مات مريضًا، يردد في هذيانه اسم سعيد بن جبير، وكأن دعوته ظلت تطارده حتى النهاية.
ورغم سمعته القاسية التي التصقت به، لم يكن الحجاج مجرد سيف مسلول لا يعرف الرحمة. فقد سجلت كتب التاريخ لحظات نادرة أظهر فيها جانبًا مختلفًا من شخصيته، لحظات أثبت فيها أن العدل عنده لم يكن مجرد بطش، بل كان ميزانًا يضعه حيث يرى الحق.
(امرأة في مواجهة الطاغية)
ففي إحدى المرات، لجأت امرأة إلى الحجاج تشتكي مظلمة ألمّت بها. كانت من عامة الناس، لا سند لها ولا نفوذ، لكن جرأتها دفعتها إلى الوقوف أمام الرجل الذي تهابه المدن والقبائل. قالت له بشجاعة:
"أيها الأمير، لقد ظلمني عاملك، وأخذ مني حقي بغير وجه حق!"
نظر إليها الحجاج، وتساءل مستنكرًا: "وكيف تجرأتِ على القدوم إليّ وحدك؟ ألا تعلمين من أكون؟"
لكن المرأة لم تهتز، وردت عليه: "سمعت أنك تنصر المظلوم وتأخذ الحق من الظالم، فجئت إليك."
عندها، ابتسم الحجاج، وأمر بإحضار العامل الظالم، ثم أجبره على ردّ المظلمة وتعويض المرأة. بل إنه أمعن في تأديب العامل، قائلاً له:
"إنما ولّيتك على الناس لتقيم العدل، لا لتظلمهم!"
(مجنون بني عجل وعفو الحجاج)
ومن القصص التي تدل على أن الحجاج لم يكن مجرد آلة بطش، أنه ذات يوم قُبض على رجل من بني عجل، قيل عنه إنه مجنون، وكان قد تحدث بكلمات تُفهم على أنها انتقاد للحجاج أو تهكم عليه.
فلما مثل الرجل بين يدي الحجاج، سأله: "ما الذي دفعك إلى قول ما قلت؟"
فأجابه المجنون ببراءة ساخرة: "أردت أن أختبر صبر الأمير."
نظر الحجاج إليه طويلًا، ثم قال: "لو كنتَ عاقلًا، لقتلتك، لكن بما أنك مجنون، فلا سلطان لي عليك."
ثم أمر بإطلاق سراحه، قائلاً لحاشيته: "دعوه، فإنني لا أقتل من لا يعقل ما يقول."
-نعم، رغم سمعته القاسية، وردت بعض المواقف الإنسانية الأخرى التي تُنسب إلى الحجاج، ومنها:
(إنقاذه امرأة من الظلم مرة أخرى)
يُروى أن امرأة جاءت إلى الحجاج شاكيةً زوجها الذي طلّقها ظلمًا وأخذ أولادها. فاستمع الحجاج لها وأمر بإحضار الزوج، ثم قال له:
"أما تخاف الله في أولادك؟ إن كنتَ قد كرهتَ أمهم، فهل كرهتَ أبناءك؟"
وأمره بإرجاع الأولاد إلى أمهم، فامتثل الرجل فورًا، وعادت المرأة إلى بيتها مع أولادها.
(موقفه مع أحد جنوده المصابين)
في إحدى المعارك، رأى الحجاج جنديًا مصابًا ينزف بشدة، فتوقف بجانبه وسقاه الماء بنفسه، ثم أمر بحمله إلى الطبيب لمعالجته. وقال لمن حوله:
"الجنود هم سيفي، ولا خير في قائد يترك سيفه يصدأ."
وكان هذا التصرف نادرًا منه، لكنه أظهر جانبه الحريص على رجاله في الحروب.
(وفاؤه للأمانة في حفظ أموال اليتامى)
يُحكى أنه كان شديد الحرص على أموال اليتامى، وعندما جاءه رجل يطالب بمال ليتيم تحت وصايته، رفض إعطاءه شيئًا حتى تأكد من حاجته الفعلية، وقال:
"لا آخذ أموال الناس لننفقها كيفما نشاء، بل لنحفظها لأهلها."
إصلاحات الحجاج(الوجه الآخر للقسوة)
لم يكن الحجاج مجرد سيف مسلول، بل كان إداريًا بارعًا نفّذ إصلاحات غيرت وجه الدولة. ومن أبرز إنجازاته:
1. تعريب الدواوين، مما سهّل إدارة الدولة وعزز الهوية العربية داخل المؤسسات الرسمية.
2. إصلاح النظام الضريبي، حيث أعاد تنظيم جباية الضرائب بانضباط شديد، مما عزّز خزينة الخلافة.
3. دعم الفتوحات الإسلامية، إذ توسعت الدولة في عهده إلى السند والأندلس.
4. تنقيط القرآن الكريم، حيث أشرف على هذا المشروع الضخم، مما سهّل قراءته ونشره.
(حكم التاريخ)
هل بن يوسف طاغية أم قائد حازق لا بد منه؟
عندما ننظر إلى الحجاج، نجد أن الحكم عليه ليس بالأمر السهل. فبينما يرى البعض أن دمويته جعلته مثالًا للاستبداد، يرى آخرون أنه كان ضرورة فرضها عصره.
قد يلعنه التاريخ، لكن لا أحد ينكر أن بصمته باقية. قد تكرهه الشعوب، لكن الدول لا تنسى من حفظ بقاءها.
والسؤال الذي يظل معلقًا بين دفاتر الماضي وأروقة الحاضر: هل يصنع التاريخ العظماء، أم أن العظماء هم من يفرضون أنفسهم على التاريخ؟
بقلم/
ريم ماهر.